ورغم أن كل الوثائق التي نشرت تباعاً عما جرى
في زيارة القدس وفي مؤتمر كامب ديفيد أكدت هذه الحقيقة، إلا أن هناك آراء
لا تزال تصر على أنه كان بوسع الدول العربية أن تستعيد كل أراضيها المحتلة
وأن تقيم منظمة التحرير الفلسطينية دولتها المستقلة في حدود 1967 لو كانت
استجابت لدعوة الرئيس السادات في حينه وحضرت مؤتمر مينا هاوس، وهو ادعاء
تدحضه كل الحقائق. فقد رفض رئيس الوفد الإسرائيلي المشارك في مؤتمر مينا
هاوس أن يدخل إلى قاعة المؤتمر قبل إنزال العلم الفلسطيني بعد أن أشار إلى
وجود علم غريب لا يعرفه! ولا جدال في أن الرئيس السادات كان يعلم يقيناً
أن الدول العربية لن تحضر مؤتمر مينا هاوس وأنه كان أول من يدرك أن الدعوة
التي وجهها لم تكن سوى مناورة لإلقاء المسؤولية عليها وتبرير عقد معاهدة
سلام منفصلة. ولا ينطوي البوح بهذه الحقيقة على أي نوع من الدفاع عن الدول
العربية التي ارتكبت بدورها أخطاء قاتلة لا محل هنا لمناقشتها، غير أنني
على يقين تام من أن هذه الأخطاء ليست هي المسؤولة عن تعثر التسوية والتي
تتحمل إسرائيل وزرها وحدها.
قد لا يكون من الإنصاف أن
نحمَل الرئيس السادات وحده وزر ما جرى للمنطقة بعد زيارة القدس وإبرام
معاهدة سلام مع إسرائيل، فتلك الخطوة لم تكن السبب الوحيد وراء ما هو عليه
العالم العربي من انهيار. غير أن ما لا شك فيه أن مغامرة السادات أضعفت
مصر والعالم العربي معاً، ما أفسح الطريق أمام العربدة الإسرائيلية. فمن
المسلم به أن معدل إقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي العربية
المحتلة تضاعف مرات عدة بعد المعاهدة مقارنة بما كان عليه قبلها، فضلاً عن
أن إبرام معاهدة سلام مع الدولة العربية الأكبر كان بمثابة ضوء أخضر
للعالم أجمع كي ينهي مقاطعته ويطبع علاقاته مع اسرائيل.
كان بوسعي أن أفهم حاجة مصر إلى هدنة طويلة الأجل تلتقط فيها أنفاسها
وتعيد خلالها ترتيب بيتها من الداخل وبناء عناصر القوة, ولو حدث ذلك لأدى
بذاته إلى إدخال عامل ردع في معادلة الصراع وحال دون التوحش الإسرائيلي
الذي نشاهده يومياً على شاشات الفضائيات في مواجهة الشعب الفلسطيني
الأعزل، ومن دون دخول شخص مثل ليبرمان الى الحكومة في اسرائيل، وهو الذي
اشتهر بتصريحاته الداعية إلى تدمير السد العالي وإلى الطرد الجماعي
للفلسطينيين المقيمين في إسرائيل وحصار سكان الضفة الغربية في بانتوستانات
معزولة عن بعضها. غير أن الفاجعة أن مصر تبدو، وبعد ثلاثين عاماً من
«السلام» مع إسرائيل، ليس فقط أقل قدرة على الذود حتى عن حدودها في مواجهة
حماقات أشخاص من نوع ليبرمان وأمثاله، بل وأقل تأثيراً في محيطها الإقليمي
مما كانت عليه قبل المعاهدة. الأغرب من ذلك أنها لم تعد تملك من أمرها
شيئاً سوى استمرار الجري وراء سراب اسمه «التسوية الشاملة»!